لقد عشت أسمع الله - سبحانه - يتحدث إلي بهذا القرآن . . أنا العبد
القليل الصغير . . أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل ؟ أي رفعة للعمر
يرفعها هذا التنزيل ؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم ؟
وعشت - في ظلال القرآن - أنظر من علو
إلى الجاهلية التي تموج في الأرض ، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة . . أنظر
إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال ، وتصورات الأطفال ،
واهتمامات الأطفال . . كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال ،
ومحاولات الأطفال . ولثغة وأعجب . . ما بال هذا الناس ؟! ما بالهم يرتكسون في
الحمأة الوبيئة ، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل . النداء الذي يرفع العمر
ويباركه ويزكيه ؟
عشت أتملى - في ظلال القرآن - ذلك
التصور الكلامل الشامل الرفيع النظيف للوجود . . لغاية الوجود كله ، وغاية الوجود
الإنساني . . وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية ،فى شمال و جنوب
و فى شرق و غرب
. . وأسأل . . كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن ، وفي الدرك الهابط ،
وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي ، وذلك المرتقى العالي ، وذلك النور
الوضيء ؟
وعشت - في ظلال القرآن - أحس التناسق
الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله ، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله . .
ثم أنظر . . فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية ،
والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها
التي فطرها الله عليها
وأقول في نفسي:أي
شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم ؟ يا حسرة على العباد
وعشت - في ظلال القرآن - أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود . . أكبر
في حقيقته ، وأكبر في تعدد جوانبه . . إنه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة
وحده . وإنه الدنيا والآخرة ، لا هذه الدنيا وحدها . . والنشأة الإنسانية ممتدة في
شعاب هذا المدى المتطاول كله إنما هو قسط من ذلك النصيب . وما يفوته هنا من الجزاء
لا يفوته هناك . فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع . على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر
هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس ، وعالم صديق ودود . كون ذي روح تتلقى
وتستجيب ، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع: ولله يسجد
من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال . . تسبح له السماوات
السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده . . أي راحة ، وأي سعة وأي أنس
، وأي ثقة يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح ؟
وعشت - في ظلال القرآن - أرى الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية
من قبل للإنسان ومن بعد . . إنه إنسان بنفخة من روح الله: فإذا سويته ونفخت فيه من
روحي فقعوا له ساجدين . . وهو بهذه النفخة مستخلف في الأرض
: وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في الأرض خليفة . . ومسخر له كل ما في
الأرض: وسخر لكم ما في الأرض جميعا . . ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والسمو
جعل الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية
الكريمة . جعلها آصرة العقيدة في الله . . فعقيدة المؤمن هي وطنه ، وهي قومه ، وهي أهله . .
ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها ، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ
ومرعى وقطيع وسياج ! . .
والمؤمن ذو نسب عريق ، ضارب في شعاب الزمان . إنه واحد من ذلك الموكب
الكريم ، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم:نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ويعقوب
ويوسف ، وموسى وعيسى ، ومحمد . . عليهم الصلاة والسلام . . وإن هذه أمتكم أمة
واحدة وأنا ربكم فاتقون . .
هذا الموكب الكريم ، الممتد في شعاب الزمان من قديم ، يواجه - كما يتجلى في
ظلال القرآن - مواقف متشابهة ، وأزمات متشابهة ، وتجارب متشابهة على تطاول العصور
وكر الدهور ، وتغير المكان ، وتعدد الأقوام . يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى
، والاضطهاد والبغي ، والتهديد والتشريد . ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو ، مطمئن
الضمير ، واثقا من نصر الله ، متعلقا بالرجاء فيه ، متوقعا في كل لحظة وعد الله
الصادق الأكيد: وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا .
فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي
وخاف وعيد . . موقف واحد وتجربة واحدة . وتهديد واحد . ويقين واحد . ووعد واحد
للموكب الكريم . . وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف . وهم يتلقون
الاضطهاد والتهديد والوعيد
. .