في تركيا سمعت تعبير حق العين مرة أو مرتين لكنني لم أتوقف لأتأكد من فهمي لمعناه أو المقصود منه, وجاءت المرة الثالثة لتكشف لي تماما معناه عندما طلب صديقي التركي من سكرتيره أمامي إحضار بعض السندوتشات من طعام يشبه الفول عندنا في مصر, وحدد الصديق أن الطعام لثلاثة أفراد, لكن السكرتير عاد ومعه طعام لأربعة أفراد, فسأله الصديق: من الرابع؟ فقال السكرتير بسرعة وفي تلقائية: السائق!
مد الصديق يده ليفتح لفافة طعامه وهو يقول ضاحكا: حق العين!. توقفت هذه المرة لأتأكد من فهم المعني وسألت: ماذا تقصدون بحق العين؟. رد: طالما أن السائق كان معه وهو يشتري ورأي الطعام فمن حقه أن يأكل أيضا. قلت: هذا مبدأ جميل!. قال: إنه مبدأ موجود في كل الثقافات لابد أنكم في مصر تعرفونه؟. قلت: نعم بشكل أو آخر. قال وهو يمضغ الطعام في تمهل: إنه مبدأ أصيل في التكافل الاجتماعي والعدالة بين الناس.
ابتسمت وأنا أسمع هذه الكلمات الكبيرة عن التكافل والعدالة الاجتماعية في هذا الموقف البسيط وأدركت أن شهية صديقي مفتوحة أيضا للكلام والحوار, فسألته: كيف؟
ـ ياسيدي الفاضل حق العين هو أصل كل ثورات العالم, وكل محاولات التغيير في المجتمعات, الثورة الروسية مثلا قامت للقضاء علي الامبراطور والأمراء والاقطاعيين الكبار لأن الثروة كانت تتمركز في أيديهم, ولم يتركوا شيئا للفقراء, وفي تركيا أيضا حدث نفس الشئ لنفس السبب عندما قاد أتاتورك الجيش والشعب التركي لإنهاء الحكم العثماني وتحويل البلاد الي نظام جمهوري يعيد توزيع الثروة بين الناس ويحقق العدالة.
لكن ألم تعرف الامبراطورية العثمانية العدل الاجتماعي؟ لقد سمعت وقرأت عن الأوقاف الخيرية في العهد العثماني وكيف كانت اسهاماتها في كل مناحي الحياة.. نعم ولكن المستفيدين من ذلك كانوا قلة, وكانت الغالبية فقيرة, وجاء أتاتورك ليعيد توزيع الثروة, ومن الحق أن أقول إننا في بداية الجمهورية ولسنوات ليست بالقليلة عانينا وارتبك اقتصادنا. كيف؟.
جاء رجال أعمال ليأخذو ا هم أيضا الثروة, وكانوا قلة قليلة تركزت الثروة ومصادرها في أيديهم, وظهرت تساؤلات وشبهات حولهم فمنهم من أخذ الثروة بطرق ملتوية وهذا يحدث في لحظات التحول من مرحلة لأخري, وكان لابد من التغيير. وتعاقبت الحكومات والمحاولات لتحقيق العدالة الاجتماعية فجاء مثلا تورجود أوزال ونجح في أن يدخل صغار المستثمرين داخل منظومة الاقتصاد أن يستفيدوا من أصول الثروة العامة, وبذلك فتت تمركز الثروة في أيدي قلة, ثم جاء طيب رجب أردوغان. لقد سمعت عن نجاحاته في البداية وهو عمدة اسطنبول!.
نعم ويحسب له نجاحه في مجالين, أولهما قضاؤه علي البيروقراطية عميقة الجذور في العهد العثماني, وثانيهما تطويره لنظام الأوقاف في بلدية أسطنبول التي أصبحت بعد ذلك نموذجا للبلديات في تركيا كلها, وتقوم البلدية بدور أصيل في مساعدة الفقراء والضعفاء فتصرف الخبز للجائعين بنظام البطاقات, وتأتي بالكتب الدراسية للطلاب المحتاجين, بل وتعطي الأسر الفقيرة بطاقات أخري يذهبون بها الي المستشفيات للعلاج, أهم صفة في أردوغان إنه رجل تنفيذي وعملي ناجح. ولكن بعض الأوقاف مازالت موجودة؟!
نعم فالمسألة ليست استبدال سلطة بأخري, فلا مانع من الأخذ بأفكار قديمة طالما أنها تحقق الهدف وهو العدالة والتكافل الاجتماعي, فالأوقاف تساهم في نشر الرحمة بين الناس وفئاتهم المختلفة, ويمكن توظيفها في كل تفاصيل الحياة كما يحدث الآن في تركيا.. هناك مثلا مواقف للسيارات يخصص دخلها لدور الأيتام ومدارسهم. هل يساهم رجال الأعمال في هذه الأوقاف؟
ـ بالطبع, يساهم رجال الأعمال في الأوقاف اضافة الي مجهوداتهم الفردية داخل المجتمع التركي. كيف نجحتم في ادخال رجال الأعمال الأتراك في منظومة العدالة الاجتماعية؟.
ـ رجال الأعمال يتشابهون في كل مكان, فالهدف عندهم الربح وتحقيق الطموح الشخصي لهم ومؤسساتهم, لكن هناك بقية المجتمع وفئاته الفقيرة. واعطاؤهم حقوقهم شرط لا غني عنه بالنسبة لأمان وبقاء رجال الأعمال أنفسهم, وفي البداية كانت هناك صورة سيئة عن بعض رجال الأعمال وحاول هؤلاء البعض تغيير الصورة بالاعلانات وشراء ذمم بعض الأقلام.. كان هذا فيما سبق..
الآن رجال الأعمال يحاولون بالفعل المساهمة الحقيقية الفعالة في تحقيق العدالة والتكافل الاجتماعي من خلال بناء المشروعات والصناعات التي تتيح آلاف الوظائف بالاضافة الي دفعهم ضرائب تصاعدية تصل الي40%, وهكذا عرفوا الطريق الصحيح الوحيد لتغيير صورتهم أمام الرأي العام, لقد أدرك رجال الأعمال أن أمنهم وبقاءهم في المجتمع مرهون بما يفعلونه ويقدمونه لفقراء هذا المجتمع.. ان المساهمة في تحقيق العدالة الاجتماعية ليست اختيارا يمكن لرجال الأعمال تجاوزه.. أنه حق العين والسبيل الوحيد لتفادي الثورة والتغيير بالقوة!
بقلم/ وجدى زايد