سأعود بك إلي تلك اللحظة التي وقف فيها مشركو وكفار مكة أمام بيت النبي «صلي الله عليه وآله وسلم» من أجل اغتياله وقتله بمجرد خروجه من باب بيته، مكث المشركون أمام بيت رسول الله «صلي الله عليه وآله وسلم» ينتظرون خروجه، ولم يفعلوا الأسلوب الإجرامي الأكثر تجرؤًا وشراسة أن يقتحموا عليه البيت ويقتلوه في عقر داره أو علي فراشه، بل لقد بلغت بهم وبنا رحمة الله أنهم كانوا ينظرون من فتحات أو ثقب الباب ليشاهدوا النبي «صلي الله عليه وآله وسلم» نائمًا في سريره فيرتاحون وينتظرون حتي يصحو ويغتسل ويرتدي ملابسه ويتطيب ثم يؤدي صلواته ويشكر ربه ويتلو قرآنه ثم يطوي سجادته ثم يخرج بعد ساعة أو ساعتين فيقتلونه حيث كانوا منتظرين علي أحر من الجمر. بينما العقلية الإجرامية المنطقية كانت تحتم الدخول والاقتحام، ولكن لماذا انتظر قتلة النبي خروجه ولم يدخلوا عليه داره وسريره؟، أعتقد أن هذا ينم عن شرف لدي العربي حتي في الجاهلية، حتي الكافر، حتي الكافر العازم علي قتل أشرف الناس، حيث كان العرب يأنفون هذا السلوك الحقير فالاقتحام تعبير عن غياب الشرف والحياء والتقاليد، صحيح أنهم في نفس الوقت كانوا يعذبون عبيدهم الذين أسلموا، لكنه كان تعذيبًا علي عينك يا تاجر ويا عابر وللعبيد الذين لا حقوق لهم ولا اعتبار لهم ولا قيمة لهم من وجهة نظر سادة قريش، لكن عندما يكون المستهدف شخصًا بحجم وقيمة محمد العربي القريشي، رجل حر وله حقوق المواطنة القريشية فإن الاستثناء أن يقتلوه، بس يقتلوه بدون غدر ولا تحطيم للأخلاق العربية، فعدم قدرتهم علي اقتحام البيت النبوي كان بسبب الخوف من أن يلحق بهم عار عند العرب إن قتلوا رجلاً في سريره!! البعض يزعم أنهم كانوا ينتظرون أن ينام النبي حتي يقتلوه وهذا ما نستبعده ونستغربه، فهل كانوا يظنون أن النبي المستيقظ لن ينتبه في ليل وهدوء صحراء مكة لعشرين شخصًا بسيوفهم علي بابه!! ثم إنهم لما رأوا من فتحة في الباب عليا بن أبي طالب الصبي العظيم علي سرير النبي اطمأنوا إلي أن النبي لم يهرب وأكملوا الانتظار لغاية الصبح، معني ذلك أنهم لم يكونوا أبدًا مقررين اغتياله في سريره، وأنهم كانوا فعلا منتظرين خروجه مش ناويين يقتحمونه؟ وهناك من يروي أن عصابة العشرين التي جاءت لاغتيال النبي همت فعلاً باقتحام الباب والبيت وقتله لكنهم سمعوا صوت امرأة تصرخ أو تصيح كما ورد في إحدي الروايات فقلقوا وترددوا وقالوا «والله إنها لسبة في العرب أن يقولوا عنا إننا تسورنا الحيطان علي بنات العم وهتكنا ستر حرمتنا»، وهذا أحد أسرار عدم اقتحامهم البيت يضاف إلي الأسباب الأخري ويفصح عن نخوة العرب!
ثم خرج النبي «صلي الله عليه وآله وسلم» من باب بيته وليس من باب خلفي أو من نافذة أو فناء وسور، خصوصًا أن النبي وأبا بكر الصديق رضي الله عنه لما خرجا من بيت أبي بكر للهجرة خرجا من فتحة أو كوة خلف البيت، ولاحظ أن المشركين لم يكونوا محاصرين بيت النبي ولا محاوطينه، وكانوا حسب ما قرأناه في السيرة واقفين أمام باب البيت فخرج النبي ونثر وذر رمادًا في عيون القتلة أو علي رؤوسهم وهو يتلو آيات من سورة يس ومشي!!
لديّ علي هذه الحادثة المذهلة في التاريخ النبوي عشرات الدلالات، لكن ماذا أريد أن أقوله هنا تحديدًا؟ لا شيء أكثر من التحسر علي فروسية ونخوة ورجولة العرب حتي حين كانوا كفارًا يسعون لقتل النبي عندما أقارنهم بسفالة ووضاعة عسكر وعسس حكام العرب وهم يعتقلون المعارضين الآن من بيوتهم ويعيثون فيها تحطيمًا وتكسيرًا وإهانة مع هتك ستر النساء وحرمة الأعراض.. حتي ما حصلوش الكفرة!